"أينما وليت وجهك فثمة السياسة الإيرانية التي تحرض على عدم الاستقرار والفوضى"، بهذه العبارات حذر وزير الدفاع الأميركي "روبرت جيتس" الدول الخليجية في اجتماع البحرين الشهر الماضي. لكن الواقع يقول إنه أينما ذهبت من قطر إلى السعودية وحتى إلى مصر تجد المسؤولين الإيرانيين يخرقون المحظورات القديمة عبر عقدهم لاجتماعات ودية مع نظرائهم العرب. ويبدو أن الخليج العربي بدأ يبتعد عن المطالب الأميركية بعزل إيران، وهو ما يتعين على صناع القرار في واشنطن اتباعه أيضاً. فقد شرعت دول مجلس التعاون الخليجي في توطين أنفسهم للتعامل مع الوزن المتنامي للسياسات الإيرانية في المنطقة. ومع أن تلك الدول تظل جزءاً أساسياً من النظام الأمني الأميركي في المنطقة ودعمها للاقتصاد الأميركي من خلال شرائها لسندات الخزينة مقابل حصولها على الحماية، لكنها كما يقول المحلل السعودي "خالد الدخيل"، لم تعد مقتنعة بدورها السلبي تحت المظلة الأميركية، ولا تريد أيضاً أن يُزجَّ بها في الصراع الأميركي- الإيراني. وبعائداتها الكبيرة من النفط لا تريد دول الخليج العربي حرباً أخرى في المنطقة تبدد الطفرة التي تعيشها. لذا تبدو المحاولات الأميركية الرامية إلى احتواء إيران وكأنها معركة الأمس وليست ضرورة اليوم. ففي الثالث من شهر ديسمبر الماضي خاطب الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد" دول مجلس التعاون الخليجي في الدوحة بقطر، وكانت تلك المرة الأولى من نوعها منذ تشكيل المجلس عام 1981. وبعد أسابيع على ذلك وجه العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز دعوة إلى الرئيس الإيراني -وهي الزيارة الثالثة "لأحمدي نجاد" إلى المملكة في ظرف سنة واحدة- للحج إلى مكة. والأكثر من ذلك بدأت إيران تمد جسور التواصل مع مصر، حيث زار مؤخراً "علي لاريجاني"، رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، القاهرة لإجراء مباحثات على مستوى رفيع لأول مرة منذ 27 عاماً. وبعد ذلك صرح "عمرو موسى"، الأمين العام للجامعة العربية بأنه لا يوجد مبرر لدى الدول العربية للتعامل مع إيران على أنها عدو. والواضح من كل ذلك أن دول الخليج العربي تخلت عن إحدى الدعائم الأساسية للاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط التي طبعت السنة الماضية. فقد كانت السعودية ومصر على رأس الدول المتخوفة من التمدد الإيراني والشيعي في المنطقة، لكنهما عندما تقومان بدعوة "أحمدي نجاد" و"لارنجي" إلى عواصمهما، فإن الحديث الأميركي عن عزل إيران يبدو متجاوزاً. ولم يعد المرء اليوم يسمع عن "الهلال الشيعي" الذي يهدد المنطقة وحذر منه المسؤولون العرب في وقت سابق، كما أن اقتراح إدارة الرئيس بوش بتشكيل "محور للمعتدلين" يضم الدول العربية السنية وإسرائيل اختفى من ساحة النقاش. وفي الوقت نفسه أبدت دول مجلس التعاون الخليجي شعوراً بالوحدة والثقة لم تعهده طيلة السنوات الماضية، حيث اتفقت الدول الست، مطلع الأسبوع الماضي، على قيام سوق مشتركة بينهم، كما عادت المياه إلى مجاريها بين قطر والسعودية. إلى ذلك تراجعت مطالب الإصلاح السياسي في المنطقة وتبنت السعودية سياسة خارجية فاعلة بعدما ارتفعت عائدات النفط. ومع أن التغيير لا يعني تخلي الدول الخليجية عن الحماية الأميركية في أي وقت قريب، إلا أنهم أصبحوا أكثر رغبة في أخذ زمام المبادرة بأيديهم. ولا ترجع هذه المؤشرات المتنامية إلى عودة الدفء في العلاقات العربية- الإيرانية على ضفتي الخليج فقط إلى صدور التقرير الاستخباراتي الذي يؤكد تجميد إيران لبرنامجها التسلحي النووي، بل كان واضحاً حتى قبل التقرير أن الدول الخليجية لم تكن متحمسة لحرب قد تهدد الازدهار الاقتصادي والاستقرار الأمني للمنطقة. وحتى في العراق اختفت المخاوف من اندلاع حرب بالوكالة بين إيران والسعودية وفسحت المجال للحديث عن اتفاق بين البلدين. وبعد أن ظلت الدول الخليجية معارضة لحكومة "نوري المالكي" التي تدعمها إيران تبدو الآن راضية عن "مجالس الصحوة" التي تدعمها الولايات المتحدة لأنها قد تحد من النفوذ الإيراني. وبدأ أصدقاء السعودية وإيران في العراق يتفقون على مناطق النفوذ كما اتضح ذلك من خلال المباحثات التي جرت مؤخراً بين "مجلس الإنقاذ في الأنبار" السُني وبين "المجلس الإسلامي الأعلى" الشيعي. لكن ذلك لا يعني أن الدول الخليجية مرتاحة تماماً للقوة الإيرانية، حيث مازالت المشاعر المناهضة لإيران والشيعة متواجدة في الخليج. يُضاف إلى ذلك أن اقتراح "أحمدي نجاد" بإقامة نظام أمني جديد في منطقة الخليج يضم إيران لم يعتبر سوى محاولة أخرى لترسيخ الهيمنة الإيرانية أكثر منه دعوة حقيقية لإقامة نظام أمني مشترك. وتنظر دول الخليج إلى إيران باعتبارها تحديّاً طالما تعاملت معه لعقود خلت، وليس تهديداً ملحاً، أو خطراً وجودياً. والواقع أن هذا التحول في المقاربة العربية لإيران لا تترك من خيار أمام الولايات المتحدة سوى تبني المقاربة نفسها. فكما بدأ الاحتواء الأميركي للعراق في التداعي أواخر التسعينات عندما فقد جيرانه العرب ثقتهم في فاعلية نظام العقوبات، فإن المواقف الخليجية الحالية لاشك أنها ستؤثر على الطريقة التي ستتعامل بها أميركا مع إيران. ــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"